نورة في الخامسة والعشرين من العمر. تحقق حلمها أخيًرا بأن تصبح أما. وعندما عرفت بخبر حملها بدأت بالاستعداد وقراءة الكتب التي تهيؤها لاستقبال طفلها. كانت نورة تنظر إلى الأمهات حولها وتنتظر اللحظة التي تحمل فيها طفلها في أحضانها وتتخيل السعادة التي ستغمرها حينما ترى البراءة في وجه صغيرها. وأخيرا حينما رزقت نورة بحمد الله بطفلها، شعرت نورة بالسعادة والفرح!
مع مرور الأيام بدأت تشعر بالتعب الشديد وبرغبة مستمرة بالنوم وفقدت الاهتمام بكل الأنشطة التي كانت تمارسها، مثل قراءة الكتب ومتابعة المسلسلات. ظنّت نورة في البداية أنها مرهقة من تغير روتينها اليومي بعد ولادة الطفل. حتى بدأت بعد فترة تشعر برغبة في الانعزال عن الجميع حتى عن طفلها، وكانت تشعر بشيء من الحزن، والضيق بدون سبب. ذهبت نورة مع طفلها إلى أحد مواعيد المراجعة، وقررت أن تستفسر عن تغير مزاجها المفاجئ من باب الحيطة. طمأنت الطبيبة نورة وأخبرتها أن هذه الحالة تحدث مع كثير من الأمهات خلال السنة الأولى بعد الولادة واسمها الطبي هو “اكتئاب ما بعد الولادة”. شعرت نورة بالراحة والثقة واستمرت في طرح بعض الأسئلة الشائعة مثل:
ما هو بالضبط اكتئاب ما بعد الولادة؟
اكتئاب ما بعد الولادة هو اضطراب في المزاج قد يصيب المرأة ويبدأ عادة خلال شهر من الولادة. المرأة المصابة باكتئاب ما بعد الولادة قد تشعر بأعراض الاكتئاب التقليدية مما يؤثر على قدرة المصابة على الاهتمام بنفسها وبعائلتها. تزداد نسبة الخطورة في أول 90 يومًا من بعد الولادة وقد تستمر الحالة لمدة سنتين. نسبة حدوثه بين النساء تراوح من 8% إلى 18%.
ما هي أعراض اكتئاب ما بعد الولادة؟
تختلف الأعراض من امرأة إلى أخرى، ومن الأعراض الشائعة التي قد تحدث:
- تقلبات في المزاج،مع نوبات من الحزن.
- الشعور بعدم الراحة.
- البكاء بكثرة.
- تغير عادات الأكل: قد تلاحظين أنك تأكلين كميات كبيرة أو تأكلين بكيات أقل مقارنة بما سبق.
- تغير عادات النوم: قد يكون النوم لساعات طويلة جدا، أو لأوقات قصيرة جدا.
- صعوبة في التركيز، وصعوبة في اتخاذ القرارات.
- كثرة النسيان وصعوبة تذكر الأحداث واسترجاع المعلومات.
- الشعور بالذنب بلا سبب أو التفكير بأنه لا قيمة لك في الحياة.
- فقدان الاهتمام بالأنشطة والعادات اليومية التي كانت تشعرك بالحماس.
- الانسحاب، والانعزال عن عائلتك وأصدقائك.
- آلام مستمرة أو مزمنة في الجسم مثل نوبات صداع، أو مشاكل في البطن والهضم.
حاولي تذكر الأعراض أعلاه حتى تستطيع طبيبتك مساعدتك، واحرصي على ذكر كل الأعراض خصوصا تلك التي استمرت متواصلة لمدة أسبوعين أو أكثر.
ما هو سبب اكتئاب ما بعد الولادة وما هي العوامل المؤدية لاكتئاب ما بعد الولادة؟
قد تعانين من اكتئاب ما بعد الولادة مهما كانت ظروف أسرتك، وسواء كان طفلك هو الطفل الأول لك او لا. حتى الآن لا يوجد سبب وحيد واضح أو مفهوم، لكن هناك عدد من الاحتمالات المختلفة، مثل أن تكون لأسباب جسدية، عاطفية، أو هرمونيه مثل التغيرات التي تحدث أثناء وبعد الولادة، أو قد تكون أسباب غير هرمونيه كالاتي:
- تغيرات الجسم أثناء الحمل وبعد الولادة.
- تغيرات في العمل والعلاقات الاجتماعية.
- قلة النوم.
- القلق من الأمومة ومسؤولياتها.
- الخوف من عدم وجود الوقت الكافي والحرية النفسية.
ومن الأمور التي تساعد على زيادة نسبة الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة:
- إذا كان عمر الأم أقل من ۲۰سنة.
- إذا كانت الأم مدخنة.
- الحمل الغير مخطط له.
- الأم التي تقلق من الحمل.
- إذا مرت الأم بتجربة عسيرة في حملها أو ولادتها.
- وجود تاريخ مرضي لاكتئاب ما بعد الولادة في العائلة خصوصا من ناحية الأم.
- وجود مشاكل مع الزوج.
- وجود مشاكل مادية.
- نقص الدعم من الأهل أو الأصدقاء أو الزوج.
- توقف نمو الجنين في حمل سابق.
كيف يختلف هذا النوع من الاكتئاب عن الاكتئاب العام الذي نسمع عنه عادة؟
لا يختلف الاكتئاب الناتج من الولادة عن الاكتئاب العام، سوى أن الأعراض في هذه الحالة تحدث بعد الولادة، لان عملية الإنجاب عملية مرهقة لجسد وذهن الأم، وبعد الإنجاب لا تستطيع كل أم أن تأخذ الوقت الذي تحتاجه من أجل الراحة الكافية لعودة جسمها وذهنها إلى صحته المعهودة. وهذه الضغوط بالإضافة إلى ضغوط الحياة الأخرى قد تؤثر على المرأة بشكل سلبي، وقد تحدث هذه الحالة بسبب بعض التغيرات في التركيب الكيميائي للدماغ عند المرأة بعد الإنجاب.
هل استشارة الطبيب في مثل هذه الحالة من المبالغة في القلق؟
لا فالكثير من النساء يلجئن لطبيبهن لتشخيص وعلاج حالتهن، فاكتئاب ما بعد الولادة إذا لم يتم علاجه قد يستمر لعدة أشهر أو أكثر، مما قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة وتحوله إلى حالة اكتئاب أشد، بل أنه يزيد من فرصة اصابة الأم بنوبات اكتئاب في المستقبل، و قد يعيق توطد العلاقة ما بين الأم ورضيعها، حيث وجد أن أطفال الأمهات اللاتي تعرضن لاكتئاب ما بعد الولادة ولم يتم علاجهن أصبحوا أكثر عرضة للمشاكل العاطفية والسلوكية، وأيضا للمشاكل المتعلقة بالنوم والأكل، بالإضافة إلى الإفراط في البكاء وفرط الحركة وتشتت الانتباه، كما أن منهم من يعاني من تأخر في التطور اللغوي.
عند القيام بالتشخيص، سيتحدث معك طبيبك أو طبيبتك عن مشاعرك وأفكارك وصحتك النفسية بشكل عام ليتضح لديه إن كان ما تعانين منه هو عارض قصير من المشاعر السلبية التي قد تشعرين بها بعد الولادة، أو أنه حالة اكتئاب ما بعد الولادة. وقد يطلب منك طبيبك القيام بتعبئة استبيان متعلق بتشخيص الاكتئاب وقد يقوم أيضا بعمل تحاليل للدم للتأكد من عدم وجود خمول في الغدة الدرقية، بالإضافة إلى عدة تحاليل أخرى قد يحتاجها الطبيب. لذلك لا تشعري بالخجل عند مصارحتك لطبيبك، بل أفصحي عن كل الأعراض التي تشعرين بها كي يستطيع مساعدتك وعمل خطة فعالة لعلاجك.
ما هو العلاج المناسب لاكتئاب ما بعد الولادة؟
من المهم جدا عدم إهمال علاج اكتئاب ما بعد الولادة، لأن ذلك يؤدي الى إهمال الأم لنفسها وللمولود وبالتالي الى زيادة فرصة حدوث مضاعفات صحية ونفسية لها وللمولود. هناك نوعان من طرق علاج اكتئاب ما بعد الولادة كما يلي:
- العلاج النفسي بالكلام:
يساعد تحدث الأم عن مخاوفها وما تشعر به مع الطبيب النفسي أو المعالج النفسي الى التقليل من مخاوفها عن طريق إعطائها نصائح تساعدها في التحكم في مشاعرها وتحديد الأهداف ووضع الحلول بطريقة ايجابية.
- العلاج الدوائي:
في بعض الحالات قد يصف الطبيب علاجا دوائيا لكي يساعد الأم في شفائها من الاكتئاب، وفي حال كانت الأم مرضعة، فسوف يصف لها الطبيب المعالج الدواء المناسب لحالة الرضاع. باستعمال العلاج الدوائي المناسب، فإن فرص شفاء اكتئاب ما بعد الولادة تكون عالية بالعادة، وربما تلاحظ الأم المصابة تحسنا في المزاج خلال أسابيع قليلة. وفي حالات أخرى قد تتباطأ الاستجابة الأولية لعدة أشهر وربما تحتاج الأم حينها فترة علاج أطول. أيضًا، من المهم أن تعلم المريضة أنه لا ينصح أن تتوقف عن استخدام العلاج من تلقاء نفسها. ولكن حينما تضطر المريضة لذلك، يجب عليها التوقف عن استخدام الدواء بصورة تدريجية حسب تعليمات الطبيب، كما أن التوقف عن استعمال الدواء قبل الفترة المحددة التي وصفها الطبيب ممكن أن يؤدي الى حدوث انتكاسة نفسية للأم.
وللمساعدة بسرعة الشفاء من اكتئاب ما بعد الولادة، تنصح الأم ببعض النصائح:
- تغيير اسلوب الحياة بطرق صحيةمثل ممارسة الرياضة: بإمكانك ممارسة رياضة المشي مع مولودك الجديد، كما يجب عليك أن تأخذي قسطا من الراحة وتحرصي على الاهتمام بالغذاء الصحي.
- وضع توقعات منطقية: لا تحملي نفسك فوق طاقتها، افعلي ما في استطاعتك من واجباتك الأخرى، إذا لم تستطيعيالقيام بمهامك المنزلية مثلا، لا تترددي في طلب المساعدة.
- اخلقي وقتا لنفسك فقط: خذي قسطا من الوقت للاهتمام بنفسك، قومي بزيارة صديقة، أو نسقي وقتا لتكوني معزوجك لوحدكما أو اخرجي في نزهة.
- الامتناع عن العزلة: تحدثي مع زوجك، صديقتك، أهلك عما تشعرين به. اسألي الأمهات عما مروا به خلال هذهالفترة.
- اطلبي المساعدة: لا تترددي في طلب المساعدة من زوجك أو أهلك في الاهتمام بالمولود أو الاهتمام بالبيت، لتتمكني من أخذقسط من الراحة أو لتنامي فترة كافية أو لتمضية وقت مع اصدقائك لتناول القهوة.
ما هي سبل الوقاية من اكتئاب ما بعد الولادة؟
الحرص على إخبار طبيبك بأنه تم تشخيصك مسبقا بأي نوع من أنواع الاكتئاب وخاصة اكتئاب ما بعد الولادة من أهم العوامل التي قد تساعد لحمايتك مستقبلا، وإعداد خطة ملائمة لمتابعة حالتك الصحية في حال تكرر اكتئاب ما بعد الولادة. هناك عوامل للوقاية يمكنك الاتفاق عليها مع طبيبك، إما أثناء الحمل أو بعد الولادة، مثل:
- إخبار الطبيب سيجعله أكثر حرصا ليتابع حالتك الصحية عن قرب.
- قد يقوم الطبيب مبكرا بإجراء فحص للاكتئاب وهو عبارة عن عدة أسئلة يطرحها عليك ليكون التشخيص أكثر دقة. وبعد الولادة قد يقوم الطبيب بإجراء اختبار متخصص في أعراض وعلامات اكتئاببعد الولادة.
- في الحالات البسيطة من اكتئاب ما بعد الولادة، قد يكون كل ما تحتاجينه هو التحدث مع أمهاتحديثات الولادة مثلك، أو جلسات مع طبيبك النفسي لتخفيف العبء الذي تشعرين به.
- في حالات أخرى، قد ينصحك الطبيب بأخذ مضادات الاكتئاب المناسبة خلال الحمل أو فورا بعد الولادةمثل ما ذكر في الفقرة أعلاه.
هل هناك أمر خطر، ويجب الانتباه له، بالنسبة لاكتئاب ما بعد الولادة؟
مشاعر ما بعد الولادة، قد تتدرج ابتداءً بما يسمى ب “ضيقة ما بعد الولادة” (Postpartum Blues)، وقد يحصل، اكتئاب ما بعد الولادة، الذي نتحدث عنه هنا، ومن الممكن في حالات نادرة، أن يحدث ما يسمى “ذهان ما بعد الولادة”، وهذا الذهان، قد يحدث في سياق الاكتئاب، فتشعر الأم بمشاعر حزينة جدا، ويصيبها اليأس، وقد تفقد صوابها فتتصور أن طفلها، ليس لها أو أنه يحاول أن يضرها. وفي حالات معينة، قد تبدأ الأم بتمني الموت، أو أن تخطط لقتل نفسها، أو طفلها. من المهم في هذه الحالة، تذكر أن هذه الحالة هي مرض نفسيا بحاجة إلى تدخل مباشر وسريع.
في نهاية الموعد، شعرت نورة بالثقة والراحة لأنها استشارت طبيبها، حيث طمأن الطبيب نورة بأن اكتئاب ما بعد الولادة لن يؤثر على طفلها وستكون قادرة على توفير كل ما يحتاجه طفلها منها، ولن يجعلها أما سيئة، وأكد لها أنه لا يوجد اي داع للقلق حيث أن ما تمر به خلال هذه الفترة هو عارض نفسي مؤقت تمر به الكثير من الأمهات، وذكرها الطبيب بأن أفضل طريقة للاهتمام بطفلها، هو أن تهتم بنفسها أولا، ومن خلال التحدث عما تشعر به مع غيرها واستشارة الطبيب المختص. وعدت نورة نفسها أن تطلب المساعدة من زوجها وأهلها لتعطي نفسها فرصة للراحة واستعادت بذلك حيويتها ونشاطها واهتماماتها. وسوف تعود نورة لممارسة حياتها بصورة طبيعية والاستمتاع بنعمة الأمومة.
مراجعة علمية
د. متعب العنزي
قائمة المصادر:
- مصدر ١
- مصدر ٢
- مصدر ٣
- مصدر ٤
- مصدر ٥
- مصدر ٦
- مصدر ٧
- مصدر ٨ (Book: Prescribing guidelines in psychiatry (The Maudsley) 11th edition, page 270 + 435)
فريق العمل/المؤلفين:
- شهد الكاف
- هيفاء الداود
- نوف كدسه
- نور الهداب
- ندى القحطاني
- بسمه الرشيد
- ديمه الراشد