د. فاطمة سعيد الهملان
“تعمل خديجة في مهنة التدريس، عملها يتطلب منها الكثير من الوقت وهي واقفة، بدأ أسفل ظهرها يؤلمها، وجع في الحوض، وكلما تحركت زادت الآلام، تطور الموقف قليلاً وبدأت بعض الإفرازات غير الطبيعية تتزايد لديها، كانت تعتقد أنه بسبب الوقوف كثيراً، وكعادة البعض اتجهت خديجة لأقرب صيدلية وقامت بشراء المستحضرات الطبية الخاصة بالمناطق الحساسة.
ورغم انتظامها في الدواء إلا أن الوجع لم يختفِ، اتجهت خديجة للطبيب وبعد الفحص أخبرها أنها مصابة بسرطان عنق الرحم.”
فماهو سرطان عنق الرحم؟
هو سرطان ينشأ من عنق الرحم (الجزء السفلي من الرحم والذي يصل الرحم بالمهبل) نتيجة حدوث نمو غير طبيعي للخلايا. هذا النمو الغير طبيعي للخلايا يحتاج سنين ومراحل عديدة ليصل الى مرحلة السرطان. لذلك الكشف المبكر والمعروف بـ مسحة عنق الرحمPap smear) ( يحمي حياة العديد من النساء حيث يتم اكتشاف النمو الغير طبيعي للخلايا في مراحلها المبكرة وبالتالي علاجها والشفاء التام منها حيث اثبتت الدراسات الحديثة ان نسبة الشفاء من التغيرات الخلوية في عنق الرحم عندما يتم اكتشافها مبكرا تصل الى 95%.
قد يتبادر الى ذهن البعض سؤال وهو كيف تبدأ التغيرات الخلوية في عنق الرحم وماسببها؟ والإجابة المباشرة هي ان فيروس الورم الحليمي البشري Human Papillomavirus, HPV هو المسؤول عن أكثر من ٩٥ بالمئة من حالات سرطان عنق الرحم. فـ فيروس الورم الحليمي البشري يعتبر من اكثر الفيروسات الجنسية انتشارًا في العالم و أن له انواع عديدة تتراوح بين عالية الخطورة (تسبب سرطان) متمثلة في 15 نوع اشهرها نوعي 16 و 18، و أنواع منخفضة الخطورة (تسبب الثآليل الجلدية و التناسلية) اشهرها نوعي 6 و 11. تكمن الخطورة في الإصابة بهذا الفيروس ان معظم المصابين لا يدركن حقيقة حملهم للفيروس و ذلك لعدم ظهور اعراض واضحة عند الإصابة بالعدوى. الجدير بالذكر أن الإصابة بفيروس الورم الحليمي البشري لا تعني الإصابة بسرطان عنق الرحم فهنالك اشخاص يصابون بالفيروس ولكن مناعة الجسم تتخلص منه. ولكن هناك حالات شاذة يتغلب فيها الفيروس على مناعة الجسم خاصة لدى الأشخاص ذو المناعة الضعيفة، او ممن يستخدمون علاجات مثبطة للمناعة او ممن يعانون من امراض مزمنة اخرى. بالإضافة الى ذلك، انواع فيروسات الورم الحليمي البشري التي تسبب الثاَليل التناسلية والجلدية لاتسبب السرطان.
بعد اكتشاف علاقة فيروس الورم الحليمي البشري بسرطان عنق الرحم في الثمانيناتالميلادية، بدأت سلسلة الأبحاث العلمية في دراسة هذا الفيروس لمحاولة القضاء عليه و فعلا تمكنوا من انتاج لقاح للوقاية منه. اللقاح الأول ويُعرف بـ (جارديسيل) هو لقاح رباعي التكافؤ يوفر حماية ضد أربعة أنواع من الفيروس (نوعي 16، 18 المسببة لسرطان عنق الرحم و نوعي 6، 11 المسببة لالثاليل التناسلية) و هذا اللقاح يٌعطى للمرأة و الرجل من عمر 11 سنة الى 26 سنة او قبل الزواج. بينما اللقاح الآخر المعروف بـ (سيرفيركس) هو لقاح ثنائي التكافؤ يوفر حماية ضد نوعين فقط من الأنواع شديدة الخطورة والتي تسبب السرطان وهي نوعي (16و 18) و يٌعطى للمرأة فقط ويفضل قبل الزواج. كما نعلم ان فيروس الورم الحليمي البشري هو فيروس ينتقل بالطريقة الجنسية والملامسة الجسدية الحميمية لذلك يُفضل اخذ اللقاحات قبل الزواج وقبل بدء العلاقة الزوجية. الجدير بالذكر أن الأبحاث لم تتوقف عند هذا الحد ففي عام 2014 وافقت هيئة الغذاء و الدواء الأمريكية على اللقاح المطوّر من جارديسيل والتي اطلقت عليه (جارديسيل9) لأنه يوفر حماية ضد تسعة أنواع من الفيروس 6, 11, 16, 18, 31, 33, 45, 52, 58. وتستمر عجلة الأبحاث الطبية في تطوير اللقاحات والعلاجات للقضاء على الفيروس.
بعدما عرفنا عن مسببات سرطان عنق الرحم، كيف يمكن الوقاية منه؟
الفحص المبكر عن طريق مسحة عنق الرحم التي تعتبر من اهم الفحوصات الطبية التي يجب على كل سيدة متزوجة او ممن سبق لها الزواج ان تحرص عليها وتكون جزء من الفحص النسائي الروتيني. الهدف منه هو الكشف عن أية تغيّرات غير طبيعية في خلايا عنق الرحم و يتم تصنيفها على حسب شدة التغيرات في عنق الرحم. بناء على النتائج يتم تحديد خطة العلاج. يتم فحص عنق الرحم في العيادة من قبل طبيب الأسرة أو طبيب أمراض النساء والولادة. إذ يقوم الطبيب بأخذ مسحة من خلايا عنق الرحم وارسالها للمختبر لفحصها تحت المجهر الإلكتروني ومعرفة وضع الخلايا في منطقة عنق الرحم. ايضا يتم استخدام نفس العينة لإجراء اختبار فيروس الورم الحليمي البشري. الإجراءات هذه روتينية وغير مؤلمة وفائدتها عظيمة. اذا كانت النتائج سليمة، غالبا يطلب الطبيب اعادة الإختبار بعد 3 سنوات او حسب عمر المريضة. في حال الشك بوجود تغيرات غير طبيعية في منطقة عنق الرحم، يحتاج الطبيب إلى إجراء المزيد من الفحوصات, حتى يتمكن من معرفة مدى انتشار التغيرات الخلوية ودرجة شدّتها وبالتالي تحديد الخطة العلاجية.
من الفحوصات الضرورية عند وجود خلايا غير طبيعية في عنق الرحم:
1- فحص عنق الرحم بالمنظار (يستخدم الطبيب منظارا مكبِرا لفحص نسيج عنق الرحم وقد يضطر لأخذ خزعة من أنسجة عنق الرحم لتحليلها في المختبر)
2- كشط الغطاء المخاطي لعنق الرحم من اجل الكشف عن وجود خلايا سرطانية
3- استئصال الأنسجة ذات التغيرات الخلوية عن طريق اما الخزعة المخروطية او بواسطة لولب السلك الكهربائي
ختامًا ولنصل الى الرسالة المهمة من هذه المقالة هو الحرص على فحص مسحة عنق الرحم فهي الطريقة الأفضل للكشف عن أية تغيرات تحصل في خلايا عنق الرحم, والتي قد تسبّب السرطان. إجراء هذا الفحص بشكل روتيني ودوري يضمن الكشف عن هذه التغيرات قبل أن تتحوّل إلى ورم سرطاني. ولذلك، من المهم الخضوع إلى الإشراف الطبي الدائم وتلقي العلاج اللازم بعد أي فحص مسحة عنق الرحم. ايضا يجب اجراء اختبار فيروس الورم الحليمي البشري للتأكد من عدم اصابة المرأة بالعدوى الفيروسية.ففي البلدان المتقدمة يُعتبر فحص مسحة عنق الرحم و تحليل فيروس الورم الحليمي اختبار ثنائي روتيني للمرأة من فوق عمر الثلاثين. ايضا الحرص على اخذ لقاح الورم الحليمي البشري كاجراء احترازي لمواجهة العدوى الفيروسية.
هذه الممارسات الطبية الوقائية اثبتت نجاحها في الدول المتقدمة حيث ظهرت نتائجها المُفرحة في تقرير منظمة الصحة العالمية للعام ٢٠١٥ عندما اعلنت ان حالات سرطان عنق الرحم تراجعت للمركز الرابع بعد ان كانت في المركز الثاني بعد سرطان الثدي و لكن للأسف هناك تنبؤات من منظمة الصحة العالمية أن حالات سرطان عنق الرحم في الدول النامية سوف ترتفع حيث تنعدم برامج التوعية، والكشف المبكر، وصعوبة الوصول الى مراكز الرعاية الصحية.
في المملكة العربية السعودية، وبناء على تقرير المجلس السعودي الصحي لعام 2013، يحتل سرطان عنق الرحم المرتبة الخامسة بين أمراض السرطان الأكثر شيوعاً لدى النساء. الجدير بالذكر أن اغلب حالات سرطان عنق الرحم في المملكة تصل الى المستشفيات في مراحل سرطانية متقدمة. فقد كشف مركز الخليج لمكافحة السرطان و الوقاية منه في احصائية شاملة من عام 1998 الى 2009 لحالات سرطان عنق الرحم في الخليج و النتيجة كانت مُخيفة حيث ان اكثر من 50% من الحالات المصابة بسرطان عنق الرحم يتم الكشف عنها في مراحل متقدمة و نسبة الشفاء قليلة. وهذا دليل كاف أن النساء المصابات بسرطان عنق الرحم لم يخضعن لإختبار فحص عنق الرحم. لذلك لابد من حملة وطنية شاملة لتطبيق برنامج فحص عنق الرحم ومعرفة مدى انتشار فيروس الورم الحليمي البشري لمواجهة هذا المرض والقضاء عليه. كما أن هناك دور كبير للجمعيات الطبية المتخصصة في التثقيف الصحي وتسهيل برامج الكشف المبكر لتكون متاحة لكل السيدات وفي جميع مناطق المملكة. عندما تتحد الجهود، سوف نقضي على سرطان عنق الرحم!
الكاتب | د. فاطمة سعيد الهملان
عالمة أبحاث في علم الفيروسات مستشفي الملك فيصل التخصصي و مركز الأبحاث قسم الالتهابات و المناعة |
المراجع | |
المصادر |